أمام وفرة المعلومات التي تنهال كل ساعة، يحار المرء كيف يصطفيها، وكيف يخزنها للاستدلال بها عند الحاجة، خصوصا إذا عارض بعضها بعضا، وأيّها يصدّق. هل يشكّ فيها جميعا أم في بعضها فقط، أم يخضعها كلّ مرة إلى عقله ومخزون ذاكرته فيحلل ويقارن حتى يهتدي إلى الحقيقة؟
يؤكد الخبراء أنّ الذاكرةَ، مهما كانت قوّتُها، محدودةٌ، وأن ما يعرض عليها من أخبار ومعلومات يوميّا يفوق طاقة تخزينها بصفة سليمة، ما يدفعها إلى انتقاء ما تُبقي وما تَلفظ.
هذا الانتقاء يتم في معظمه بفضل المشاعر التي تنتابنا إزاء ما يعرض علينا، فالوعود الوردية والخطب المثيرة للشفقة والصور الصادمة تشدّ انتباهنا أكثر من سواها لأنها تنطبع في أذهاننا بسهولة.
وقد لاحظ باحثون دنماركيون عند تحليلهم لتغاريد حول قمة البيئة 15 أنه كلما أثارت معلومة ما مشاعر سلبية في نفوس الناس كالخوف والحزن والغضب، كانت أسهل للتداول، رغم أن الجانب الانفعالي لعنوان كبير لا يضمن دائما صحة المحتوى.
الفكر النقدي
لكي يدّخر الدماغ طاقته يستعمل مناهج كشف تستند إلى تقدير يصوغه انطلاقا مما سبق لنا معرفته، رغم أن تلك المناهج قد تؤدي في بعض الظروف إلى أخطاء في الحكم يسميها المتخصصون “انحرافات إدراكية”، كانحراف التأكيد، حيث لا يمكن للمرء تغيير رأيه بعد امتلاك قناعة ما، حتى وإن خالفت معلومة جديدة ذلك الرأي الذي استقر في ذهنه.
أي أننا نولي أهمية وشرعية أكبر لمحتويات تعزّز آراءنا ومعتقداتنا، ونميل إلى إلغاء الأدلة التي تكّذبها. وانحراف النماذج، إذ عادة ما نحكم على معلومة أنها حقيقية فنقبلها دون تمحيص حين تصدر عن شخصية بارزة أو باحث متخصص، فما ينطق به عالم أو خبير عادة ما نتلقّاه كحقيقة مسلّمة لا تقبل الطّعن. وانحراف القصدية الذي يقوم على فكرة ألا شيء يحدث صدفة وأن لكل حادثة سببا، حتى وإن كانت ضعيفة الاحتمال. ويكفي أن نضفي على شخص أو جهة ما سوء نيّة حتى نصدق بسهولة نظريات المؤامرة. ولتجنّب تصديق الأخبار الزائفة وتبنّيها وترويجها، أو الوقوف من كل ما تروّجه وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية موقف شكّ واحتراز، ينصح علماء النفس باعتماد الفكر النقدي، كسلاح ضدّ البديهيات الخاطئة، لأن الشكّ في كل شيء يعرّض صاحبه إلى الإعراض عن كل شيء، وبالتالي إلى الجهل التّام.
فكيف يطور المرء فكرا نقديّا يكون بمثابة جهاز وقاية ذهنية؟
الشك واليقين
من النّاس من يكتفي بتصديق ما له علاقة له بمجال تخصّصه، ولا يعترف بسواه حتى ولو أثبته الدليل والمنطق، وهذا موقف الشكوكيين منذ بيرون (360-270 ق م) مؤسس مذهب الشكّ، وكانوا يعدّون الشكّ طريقا إلى الحكمة، بيد أن هذا الموقف الفلسفي لا يستقيم عمليّا لأنه من الصعب على المرء أن يعيش دون أن يؤمن بشيء ما، ويتخلى عن كل معرفة أو حكم، ويمتنع عن الإدلاء بصوته في اقتراع، وحتى تعلّم حِرفة.
أي أن رفض منح ثقته لأي طرف، من جهة شخصه أو من جهة حكمه على الأشياء، يلغي العقل ويَحول دون الفعل. وليس أمام الشّكوكيين، كي يغنموا فوائد شكّهم دون أن يقعوا في الجهل، سوى أن يطوّروا نوعا من الشكّ العقلاني، ويحاولوا ترتيب تلك الثقة على ضوء صدقية المصدر والبرهان والحكم، بدل أن يمتنعوا عن منح ثقتهم لأي كان.
وهو ما سار عليه شكوكيون لاحقون يرفضون الرؤية الثلاثية للمعارف، تلك التي يكون فيها المرء أمام فرضية فلا يعرف ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة أو يقف جاهلا بماهيتها، والحال أن علم النفس الحديث أثبت أن الاعتقاد يتطور وفق نسقية مسترسلة. وبدل تعليق المرء حكمَه على أي شيء بحجة غياب يقين ممكن، ينصح علماء النفس بتعديل درجة اعتقادنا، بوضع الوثوقية وإمكانية الخطأ في الحسبان، وعوض أن نرفض إيلاء الآخرين ثقتنا، وننبذ كل دليل بدعوى أنه قد يكون خاطئا، نمنح درجة ثقتنا لصدقية الخبر.
المفكرون وعلماء النفس ينصحون باعتماد الفكر النقدي الذي يعتبر سلاحا فعّالا ضدّ البديهيات الخاطئة التي نكتسبها
في هذه الحالة، لا يقودنا العقل إلى شكّ مفرط، بل إلى تعديل مستوى ثقتنا واعتقادنا. وفي رأيهم أن معايرة الثقة في الأخبار هي من صميم الفكر النقدي. ولا بدّ عندئذ من أخذ المخاطر بعين الاعتبار، والقبول بألا وجود لمعرفة تامة. فالإجماع العلمي قد يشوبه خطأ، والتجارب الأكثر صرامة قد تحوي خللا لا نتبيّنه. فلا الناس ولا حواسّهم معصومون من الخطأ. ثم لا بدّ بعدئذ من أن يقبل المرء بمراجعة معتقداته حين يظهر دليل منطقي جديد.
فأن يمارس المرء وعيه النقدي معناه أن يحاول معايرة ثقته في كل معلومة عندما يكون له فيها رأي. هذه المعايرة تمرّ عبر تقييم المعلومة ومصدرها. وللحكم عليها يمكن أن نعتمد على عدة دلائل كمعقوليتها، أي أن توافق العقل، وصرامة منطقها الحجاجي، وقيمة الأدلة وعددها… فتلك هي الطريقة التي يمكن أن يعدّل بها المرء ثقته، بالزيادة أو النقصان. أي أن المرء مطالب بأن يواجه نفسه بالسؤال كي يعرف ما إذا كان يسعى لمعرفة الحقيقة، أم يحاول تأكيد وجهة نظره بشتى الوسائل.
صفوة القول إن الشكّ جائز إذا كان وسيلة لبلوغ اليقين، شريطة أن يمتلك المرء وعيًا نقديّا يسمح له بفرز الصواب من الخطأ، وأن يتسلّح بزاد معرفيّ يساعده على تبيّن مساره حتى لا يضلّ الطريق فيشتبه أمامه الأصل والزائف، رغم أن غوته يعتقد أن الشكّ يزداد كلما ازدادت المعرفة. ولكنه مرفوض إذا تحوّل إلى هوس مرضي، يدفع صاحبه إلى الطّعن في كل شيء، حتى الحقائق التي أصدر العلم فيها حكما باتّا من زمان، لأن الشكّ حينئذ يفعل في الذهن ما يفعله الشلل بالجسد.
يقول باسكال “ينبغي الشكّ حيث يلزم، والتأكيد حيث يلزم، والتسليم حيث يلزم. من لا يفعل ذلك لا يسمع قوة العقل. ثمة من يستهين بهذه المبادئ الثلاثة، إما أن يؤكد أن كل شيء يمكن إقامة الدليل عليه فلا يجد نفسه في الأدلة، أو يشكّ في كلّ شيء فلا يعرف أين ينبغي التسليم، أو أن يسلّم بكلّ شيء فلا يعرف أين يكون
الحُكم”.
تعليقات
إرسال تعليق